صدى الواقع اليمني - تقرير: حسين الشدادي

في منطقة "يفرس"، مركز مديرية جبل حبشي بمحافظة تعز، تقف شجرة الغريب بشموخها الأسطوري، حارسةً للأسرار، شاهدةً على الزمن، وعابرةً لألف عام من الحكايات والطقوس والشفاءات. إنها الشقيقة الروحية لشجرة الغريب في "السمسرة" بمديرية الشمايتين، غير أن لكل شجرةٍ شخصيتها، ولكل جذعٍ ذاكرته الخاصة المتشابكة مع وجدان الناس.
تتجاوز هذه الشجرة في يفرس حدود الطبيعة، وتتشكل في وعي الناس ككائن يتنفس الحياة القديمة، يضم بين أغصانه مزيجًا غريبًا من الغرابة والقداسة. جذعها العريض يثير الدهشة، وفروعها تنحت في الذاكرة صورًا تتجاوز الخيال: أحدها يأخذ شكل خرطوم فيل، والآخر يبدو كتمساحٍ رابض على تخوم الأسطورة.
ولشجرة الغريب ثمرة فريدة من نوعها، لا تشبه ثمارًا أخرى، تُدعى محليًا بـ"جعف"، وجمعها "جعافة"، تأخذ هيئة غامضة، تخبئ في داخلها بذورًا وشيئًا رطبًا يتناوله السكان بنية الاستشفاء من الأمراض. يؤمن أبناء المنطقة، بل ويؤكدون، أن هذه الثمار قد خففت عنهم أوجاعًا مزمنة، وعالجت أجسادهم من عللٍ استعصت على الطب الحديث. حتى أوراقها لا تُرمى، بل تُعجن وتُدهن بها الأجساد كمراهم طبيعية لعلاج الأمراض الجلدية، وكأن في كل ورقةٍ منها وصفة شفاء متوارثة.
لكن الأعجب من كل ذلك ليس في تركيبها النباتي، بل في ما يلتف حولها من طقوسٍ مدهشة، تخرج من إطار الطب إلى رحاب المعتقد الشعبي، الذي لا يزال حيًا متجذرًا رغم كل القفزات العلمية والتقنية. في جذوع الشجرة، تلمح أربطة قماشية متعددة الألوان، ربطها الزوّار من مناطق شتى في اليمن، وكل رباط يحمل نية دفينة: شفاء، محبة، طول عمر، أو حتى عودة غائب. يربط الزائر قطعة من قميصه أو منديله على أمل أن تبلّغ الشجرة أمنيته إلى السماء.
وتتكرر الطقوس ذاتها منذ مئات السنين، بل وتتشابه مع طقوسٍ مماثلة في ثقافات أخرى، كالهند وبعض دول آسيا، حيث تُقدّس الأشجار ويُعتقد بأنها تحفظ الأمنيات وتستجيب للنداءات. في يفرس، يتعدى الأمر الربط بالأقمشة، ليصل إلى نقش الأسماء على الجذع العريض، حيث يخط العشاق حروفهم كعهدٍ لا ينكسر، وكأن هذا الجذع المتين شاهد على الحب، حارسٌ لأسراره، وراوٍ لقصصٍ لا يمحوها المطر.
ورغم الحداثة والعلوم، ورغم كل ما تغير في وجه الحياة، بقيت شجرة الغريب في "يفرس" حكايةً لا تموت، أسطورةً واقعية تنبض بالحياة، تلتف حولها الأرواح كما يلتف الأطفال حول الجدة لتسمعهم ما كان وما قد يكون.
فهل نحن أمام شجرة؟ أم أمام كتابٍ حيّ من كتب الذاكرة الشعبية؟
أم لعلها مرآة لما تبقّى فينا من إيمانٍ بالعجائب؟
هكذا تبقى شجرة الغريب في يفرس، لا مجرد نبات، بل كائنٌ روحيّ، تلتحم فيه الأرض بالسماء، والماضي بالحاضر، والبشر بالطبيعة، في مشهدٍ مهيب لا ينتهي.
إرسال تعليق