جارٍ تحميل الأخبار العاجلة...
Responsive Advertisement

عن أي وطن نتحدث؟

صدى الواقع اليمني - كتب: يوسف اليامي

الصحفي يوسف اليامي


هل نتحدث عن وطنٍ كان ذات يوم مليئًا بالحياة، فصار الآن مجرد أنقاضٍ تروي قصة الخراب؟ عن شوارع كانت تضجُّ بالناس، والآن لا ترى فيها سوى أشباح الجوع والخوف؟ عن مدنٍ كانت تنبضُ بالحياة، فصارت مقابر مفتوحة تحصي أسماء من رحلوا دون وداع؟

كيف يُختصر كل هذا الدمار في كلمة "أزمة"؟ كيف يصبح الانهيار الكامل مجرد خبرٍ عابر في نشرات الأخبار؟ ليس هذا انهيارًا فحسب، إنه اغتيالٌ ممنهجٌ لوطنٍ بأكمله، اغتيالٌ يتم على مراحل، بأيدٍ تدّعي حبّه وقلوبٍ لا تعرف سوى النهب والخيانة.

الوطن.. الضحية الأبدية
لم يكن الوطن يومًا عدوًا لأبنائه، لكن بعض أبنائه كانوا أسوأ أعدائه. لم يكن الوطن سوى حضنٍ آمنٍ لهم، لكنهم فضّلوا بيعه في سوق المصالح، قايضوه بمناصبهم، بمكاسبهم، بامتيازاتهم. لم يكن الوطن سوى أملٍ يعيش في قلوب المساكين، لكنهم سحقوا هذا الأمل تحت أقدام أطماعهم.

ثمانية وجوه يقتسمون البلد كما يقتسم الذئاب فريستها، كلٌّ منهم يأخذ نصيبه ثم يلعن الآخرين، كلٌّ منهم يدّعي أنه وحده المنقذ، وأنه وحده الحريص على الوطن، بينما الوطن يُسحق تحت صراعاتهم القذرة. في الجهة الأخرى، يقف رجلُ الكهف، الخارج من ظلمات الجهل والتعصب، يحكم بالنار والدمار، يوزع الموت على شعبٍ أعزل، يرفع راية الدين ليقتل باسمه، ويهتف بالمظلومية ليكون جلادًا جديدًا في قائمة الجلادين.

المواطن .. بين مطرقة اللصوص وسندان المجرمين
هل يشعر هؤلاء بآلام الفقراء؟ هل جاعوا يومًا كما يجوع المواطن كل يوم؟ هل وقفوا في طوابير طويلة للحصول على كسرة خبز؟ هل عرفوا معنى أن تراقب أطفالك ينامون على بطونٍ خاوية وأنت عاجزٌ عن إطعامهم؟ لا، لم يشعروا بذلك أبدًا، ولن يشعروا، لأنهم يعيشون في بروجٍ مشيدة، يأكلون مما ينهبونه، ويتحدثون عن الوطن وهم يدوسونه بأقدامهم.

أما المواطن، فليس أمامه سوى خيارين: إما أن يصمت حتى يقتله الجوع، أو يصرخ حتى تقتله رصاصات الغدر.

الوطن لم يعد وطنًا..
بل صار سجنًا كبيرًا، أبوابه مغلقة، لا خروج منه إلا للمقابر. في الماضي، كان الحلم هو السفر للدراسة أو العمل، أما اليوم، فالحلم هو مجرد الهروب، بأي وسيلة، بأي ثمن، حتى لو كان البحر هو الطريق الأخير. كم من الأحلام غرقَت؟ وكم من الأرواح ابتلعها الموج وهي تحاول الهروب من هذا الجحيم؟

هذا ليس وطنًا، هذه ليست حياة، هذا مكانٌ صار الموت فيه أرحم من العيش.

لا شيء يتغير..
كلما ظننا أن الأسوأ قد مر، جاء الأسوأ بعده. كلما ظننا أن هناك قاعًا أخيرًا لهذا السقوط، اكتشفنا أن الحفرة لا قاع لها. لا انتخابات، لا تغيير، لا أمل، فقط تدويرٌ لنفس الأسماء، نفس الوجوه، نفس اللصوص، نفس السفاحين، كلٌ يبدل شعاره، كلٌ يتلون بلون المرحلة، لكنهم جميعًا يتفقون على شيءٍ واحد: سرقة الوطن وقتل شعبه.

هل أكتب، ام أتتوقف..
هل أكتب عن الدماء التي سالت دون سبب.
أم أكتب عن الأطفال الذين كبروا قبل أوانهم.
أم أكتب عن الجياع الذين ماتوا ولم يسمع بهم أحد.
أم أكتب عن الذين حلموا بالوطن، فصار الوطن كابوسهم الأخير.
أم أكتب عن مدينةٍ كانت جميلة، فحولها الطامعون إلى خرابة.
أم أكتب عن وطنٍ يستحق أن يكون أجمل، لكن حكامه قرروا أن يكون أسوأ.

فأنا هنا أكتب، لأن الصمت خيانة.

Post a Comment

أحدث أقدم