صدى الواقع اليمني - كتب: يوسف اليامي
كان اليمن يومًا أرضًا تعج بالحياة، صباحاته مليئة بصوت الباعة في الأسواق، يروجون لبضائعهم بصيحات مألوفة تحفظها الأذن، والمارة يتفاوضون في الأسعار بابتسامات راضية. الأطفال يركضون في الشوارع، يحملون دفاترهم المدرسية، بعضهم يحلم بأن يصبح طبيبًا، وآخر يريد أن يكون معلمًا، وثالث يحلم بأن يسافر يومًا ليعود بحكايات من أماكن بعيدة. كان المساء يعني تجمع العائلات حول مائدة واحدة، قصص الجدّات، ضحكات الصغار، وأحاديث الكبار التي لا تنتهي عن الأيام القادمة، عن مشاريع الغد، وعن أحلام تُخطط بهدوء.
لكن كل ذلك تغيّر…
لم يعد الصباح يحمل صوت الباعة، بل صار يفتتحه دويّ الانفجارات، وصوت سيارات الإسعاف التي تمرّ مسرعةً نحو المستشفيات المكتظة، حيث لا أسرّة تكفي ولا أدوية تُسعف. الأسواق لم تعد كما كانت، بعضها أُغلق، وبعضها صار أطلالًا، وأولئك الباعة الذين كانوا يملأون المكان بالصخب، باتوا إما تحت الركام أو نازحين يبحثون عن مأوى. المدارس أُقفلت، لا يُسمع فيها سوى صفير الريح التي تمرّ بين نوافذها المهجورة، والمقاعد الخشبية غطاها الغبار.
الأطفال لم يعودوا يحملون دفاترهم، بل باتوا يحفظون أسماء الأسلحة والصواريخ، يفرقون بين صوت الطائرة المسيّرة والطائرة الحربية، يعرفون متى يركضون للاختباء، وأي زاوية من البيت أكثر أمانًا حين يبدأ القصف. بعضهم لم يعد يلعب، لم يعد يركض، لم يعد يحلم، صار يجلس بصمت، يحملق في الفراغ، كأنه فقد الإحساس بالزمن.
أما الشباب، فقد سرقت الحرب أعمارهم. كانوا يحلمون بالحياة، بالمستقبل، بالنجاح، أما الآن فهم عالقون في حاضر لا يرحم. بعضهم اضطر لحمل السلاح، لا لأنه أراد ذلك، بل لأنه لم يجد خيارًا آخر، وآخرون يقضون أيامهم في طوابير طويلة أمام مراكز الإغاثة، فقط للحصول على كيس من الدقيق يبقي أسرهم على قيد الحياة. كان بعضهم يدرس في الجامعات، يخطط لمستقبل أفضل، لكنه اليوم صار يبحث عن عملٍ بأي ثمن، حتى لو كان في أرضٍ بعيدة، حتى لو كان في البحر، حتى لو كان في المجهول.
كانت الأعراس تُقام كل ليلة، الأغاني تصدح، والناس يرقصون، وكانت المدن تمتلئ بالفرح كلما عاد حاجٌ من مكة، أو نجح شاب في دراسته، أو وُلد طفل جديد. اليوم، لم يعد أحد يحتفل، صارت الأفراح خافتة، والضحكات نادرة، والجنازات أكثر من أن تُحصى.
كان الناس يجلسون في المساء أمام منازلهم، يحتسون الشاي ويتبادلون الأحاديث عن مواسم المطر، عن الزراعة، عن السفر، عن الأسعار، وعن أخبار العائلة. اليوم، لا أحد يجلس أمام منزله، فالقصف قد يأتي في أي لحظة، والانفجارات قد تُسقط الجدران على الرؤوس. صار الناس يعيشون في خوف دائم، ينامون بملابسهم تحسبًا للهروب المفاجئ، ويحملون وثائقهم في أكياس صغيرة، فقد يحتاجونها حين يصبح بيتهم ركامًا في ثوانٍ معدودة.
حتى الأطفال الذين نجوا من الحرب لم يعودوا كما كانوا، لم يعد خوفهم من الظلام أو من الأشباح، بل صار خوفهم من الطائرات، من أصوات المدافع، من الأخبار التي تتحدث عن مجازر جديدة. صاروا يتحدثون عن الموت وكأنه أمر عادي، يسألون آباءهم عن معنى "لاجئ"، وعن سبب غياب صديقهم الذي لم يأتِ منذ أيام.
في اليمن، لم تتغير الأشياء فحسب، بل تبدلت الأرواح، تشوهت الأحلام، وصار الناس يعيشون على حافة الحياة، ينتظرون يومًا لا يأتي، وسلامًا صار يبدو مستحيلًا.
إرسال تعليق