صدى الواقع اليمني - كتب: يوسف اليامي

كلما حاولت أن أكتب، كلما هممت أن أستدعي الكلمات من مخبئها العميق، تتراجع… تتردد… كأن بيني وبين الحروف هدنة هشة لا تصمد أمام أول رصاصة،
ما إن ألمّح لها بالحرب،
ما إن تلوّح لي الصور المحترقة من شاشات الأخبار،
حتى تبدأ حروفي بالبكاء…
تتوقف أصابعي، ويتجمد قلمي،
كأن الأوراق نفسها تأبى أن تشهد على مزيد من الخراب.
ليس لأنني لا أملك ما أقوله، بل لأن ما أراه كل يوم أكبر من اللغة،
أعقد من أن يُحكى، أعمق من أن يُختصر في جملة.
كيف أكتب عن الحرب…
عن الأمهات اللاتي بتن يحفظن أسماء أولادهن في القبور أكثر من الصور،
عن الأطفال الذين يعرفون أصوات القذائف أكثر من ضحكاتهم،
عن البيوت التي صارت أطلالاً، وعن الأزقة التي كانت تعج بالحياة،
وأصبحت شاهدة صامتة على ما لن يُنسى؟
كل مرة أفتح دفتري،
أحاول أن أكتب للحياة…
لكن الحياة تبدو بعيدة،
كأنها سافرت بلا عودة وتركتنا نعدّ الأيام على أصوات المدافع.
حروفي ترفض أن تكون شريكة في تخليد الحزن،
تخاف أن تصير مرآة لدمعة قديمة أو صفعة قادمة.
كأنها تقول لي:
"دع الوجع يمرّ بصمت، لا تُوثقه… لا تمنحه عمراً أطول."
لكن كيف أصمت؟
كيف أكون إنسانًا ولا أصرخ في وجه القبح؟
كيف أكون كاتبًا، وهذا العالم يكتب دمي بدلاً عني؟
كيف أخون الحقيقة؟ كيف أغضّ الطرف عن الذين يُقتَلون مرتين:
مرة حين تسفك الحرب دماءهم،
ومرة حين نقرر ألا نحكي عنهم؟
أفكاري تخاف الحرب…
لكنها لا تستطيع الهرب.
تحاول أن تكتب للسلام،
فتسقط سهواً في جملة مليئة بالركام.
تحاول أن تبني قصيدة،
فيعترضها طفل مفقود، وأم منهارة، وصورة لاجئ.
أنا لا أكتب الحرب لأمجدها،
ولا لأوثقها كفصل من تاريخ.
أنا أكتب لأنني خائف،
لأنني أشعر بالذنب إن بقيت صامتًا،
لأنني أؤمن أن الصمت أحيانًا خيانة.
أكتب كي لا ننسى،
كي لا نعتاد،
كي لا نصير مجرد رقم آخر في نشرات المساء.
لكن رغم هذا كله…
رغم الركام، رغم الحزن، رغم فوضى الموت،
أرفع رأسي أحيانًا نحو سماء رمادية وأتساءل:
هل سيأتي المستقبل؟
وهل سيحمل شيئًا يشبه الحياة؟
هل ستعود الضحكات إلى الشوارع المكسّرة؟
هل سيكبر الأطفال دون أن يحفظوا أسماء الطائرات؟
هل سيكون الغد نظيفًا من آثار الحرب، أم سيحملها كندبة لا تزول؟
أفكر بالأجيال القادمة…
أولئك الذين سيولدون بعدنا،
في عالم ربما أكثر هدوءًا، ربما أكثر إنصافًا.
هل سيقرأون ما كتبناه؟
هل ستصلهم هذه الكلمات؟
هل سيفهمون حقًا ماذا يعني أن تعيش في زمن الحرب…
أن تبني ذاكرتك على صوت صافرات الإنذار،
أن تحفظ أسماء الموتى أكثر من أسماء أصدقائك؟
أخاف أن تصير ذاكرتنا مجرد فقرة في كتاب تاريخ،
باردة، جافة، لا تنبض، لا تُبكي أحدًا.
أخاف أن تختزل الحكاية في خريطة تتغير، أو رقم في تقرير،
وينسى العالم أن خلف كل خبر كان هناك إنسان،
يبكي، يحب، يحلم، ثم يُمحى.
لكنني أكتب،
لأحفظ الذكرى كما هي،
بدفئها ودموعها، بصراخها وصمتها،
أكتب كي لا ندفن كل شيء…
كي يبقى شيء منا،
يعيش في ذاكرة الورق،
ويشهد أننا كنّا هنا،
وأننا حلمنا، حتى في قلب الكابوس.
أكتب…
لعل طفلًا في المستقبل يقرأ،
ويعرف أن أحدًا قبله
قاوم، وكتب، وتشبث بالأمل
رغم كل شيء.
لكن في داخلي، صوت صغير يهمس:
وماذا لو لم يأتِ هذا الطفل؟
ماذا لو لم ينجُ أحد ليقرأ؟
ماذا لو ضاعت كل الحروف، كما ضاعت الأرواح؟
ماذا لو صار هذا الورق رمادًا في ريح أخرى لا ترحم؟
ربما لن يبقى شيء،
لا بيت، لا ذاكرة، لا قصيدة،
ولا حتى أنا.
فقط هذا الخوف الأبدي،
وهذا الصمت الثقيل
الذي يخنق حتى الكلمات.
نعم، أفكاري تخاف الحرب،
لكنني أخاف النسيان أكثر.
إرسال تعليق