جارٍ تحميل الأخبار العاجلة...
Responsive Advertisement

صنعاء تحت النار: حين يصبح الموت سياسةً ممنهجة

صدى الواقع اليمني - كتب: يوسف اليامي

الصحفي يوسف اليامي


في ليلة أخرى من ليالي صنعاء الثقيلة، كان الناس يمارسون حياتهم كما يفعلون كل يوم، رغم كل شيء. في الأسواق، يساوم الباعة على الأسعار المتقلبة، في الأزقة، يسير الأطفال بحثًا عن لحظة لعبٍ تسرقهم من واقع الحرب، في البيوت، تتابع العائلات الأخبار بحذر، تتوجس من الغد، تخشى أن يكون الدور عليها. لكن في لحظة واحدة، ينهار كل شيء.

ضربات جوية أمريكية، ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، تهز المدينة. الانفجارات تمزق الليل، تضيء السماء بنيران لا تحمل أي دفء، وإنما رسالة واضحة: القصف مستمر، ولا شيء محصن. في مكان ما، يهرع الناس لإخراج من يمكن إنقاذه من تحت الأنقاض، في مكان آخر، تتصاعد أدخنة القصف بينما تسود لحظة من الصمت الثقيل، ثم يليها الصراخ، والبكاء، والحيرة: لماذا؟

بين التصريحات السياسية والموت العشوائي: 

الرئيس الأمريكي صرّح اليوم بوضوح: "سنواصل قصف الحوثيين، وسنتخذ إجراءات أكثر صرامة ضد اليمنيين." قرارٌ يبعث برسالة لا لبس فيها، ليس فقط لمن يقاتلون في هذه الحرب، ولكن للشعب اليمني بأكمله: أنتم مستهدفون، سواء حملتم سلاحًا أم لم تحملوه، سواء كنتم طرفًا في الصراع أم لم تكونوا.

وكأن الضربات الجوية وحدها لا تكفي، تأتي العقوبات والإجراءات الإضافية لتزيد الطين بلة. أمريكا تمنع اليمنيين من السفر إلى أراضيها، لتضعهم في قفص أكبر مما هم فيه. لم يعد القصف وحده ما يقتل، بل الحصار، والعزلة، والتمييز، وكأن كل من يحمل جواز سفر يمني هو مجرم حتى يثبت العكس.

لكن بأي منطق؟ بأي حق يصبح المدني اليمني، الذي بالكاد يستطيع توفير قوت يومه، هدفًا لهذه القرارات؟ لماذا يُحاسب الشعب بأكمله على أفعال جماعات أو حكومات؟ كيف يمكن لدولة تتغنى بحقوق الإنسان أن تعاقب شعبًا بأسره؟

اليمن ليس دولة واحدة، بل دولتان، وثلاث، وعشر. إنه مجموعة من العوالم المتشابكة، من الأطراف المتصارعة، من القوى التي تدّعي أنها تُمثل الشعب لكنها في النهاية تتصارع على حسابه. الحرب في اليمن ليست مجرد نزاع مسلح، إنها طاحونة تأكل الأبرياء، تُلقي بهم في دائرة من الألم لا نهاية لها.

عندما تقصف أمريكا صنعاء، فهي لا تصيب فقط معسكرات أو مستودعات أسلحة، بل تصيب بيوتًا فيها عائلات، تصيب مستشفيات تحتاج لكل جهاز يعمل، تصيب شوارع بالكاد يمكن للناس السير فيها أصلًا بسبب الدمار المتراكم منذ سنوات. إنها تصيب الأمل ذاته، تمزقه، وتبعثره، وتترك الناس في حالة من العجز الكامل.

الأطفال في اليمن لا يعرفون معنى السلام. لم يعرفوا سوى أصوات الطائرات التي لا تأتي إلا بالموت، ولم يروا من العالم سوى العقوبات، والموانع، والرفض. جيلٌ بأكمله يكبر وسط الدمار، بلا مدارس، بلا مستقبل واضح، بلا أفق سوى النجاة ليوم آخر.

أمريكا لا تكتفي بالقصف، بل تفرض حصارًا نفسيًا على اليمنيين حتى خارج حدود بلدهم. اليوم، صدر القرار بمنع اليمنيين من السفر إلى الولايات المتحدة. لكن الحقيقة أن الأمر ليس جديدًا، فلطالما كان الجواز اليمني مرادفًا للرفض والتمييز.

تخيل أن تكون طالبًا يمنيًا حصل على منحة للدراسة، لكنه يُمنع من دخول البلد الذي سيحقق فيه حلمه. تخيل أن تكون مريضًا يحتاج إلى علاج عاجل، لكن التأشيرة تُرفض دون سبب. تخيل أن تكون شخصًا يبحث عن فرصة، عن أمان، عن حياة جديدة، لكن العالم كله يقول لك: "أنت يمني، لا نريدك هنا."

لم يختر اليمنيون أن يولدوا في بلد تنهشه الحروب. لم يختاروا أن يكونوا ضحايا لصراعات أكبر منهم. لم يختاروا أن يُصنفوا كـ"مشكلة" على المستوى الدولي. لكن رغم ذلك، هم يُعاملون على هذا الأساس، يُرفضون، يُعاقبون، يُعزلون، وكأنهم مسؤولون عن كل ما يحدث في بلدهم.

أمريكا لا تقصف صنعاء بدافع حماية العالم، ولا بدافع إحلال السلام. القصف ليس عملاً أخلاقيًا، بل عملٌ سياسي، واستثماري، واستراتيجي. إنه قرارٌ تتخذه الإدارات الأمريكية ليس بناءً على المبادئ، بل بناءً على المصالح.

الحروب لم تعد مجرد نزاعات بين جيوش، بل أصبحت تجارة، وأمريكا هي اللاعب الأكبر في هذا السوق. كل صاروخ يسقط على صنعاء هو جزء من صفقة سلاح، كل غارة جوية هي استعراض للقوة أمام الحلفاء، كل قرار بعقاب الشعب اليمني هو وسيلة ضغط لتحقيق أهداف سياسية في منطقة تعج بالفوضى.

لكن وسط هذه المصالح، يُسحق الناس. لا أحد في واشنطن يسأل عن الأسرة التي فقدت منزلها، ولا عن الأب الذي لم يعد لديه ما يقدمه لأطفاله، ولا عن الطالب الذي كان يحلم بالدراسة في الخارج لكنه الآن محاصر داخل وطنه بلا أمل.

إلى متى؟

كلما سقط صاروخ جديد على صنعاء، تتردد الأسئلة ذاتها: متى ستنتهي هذه الحرب؟ متى سيتوقف هذا العنف؟ متى سيدرك العالم أن القصف لا يجلب السلام، وأن العقوبات لا توقف الحروب، وأن معاقبة المدنيين ليست حلًا لأي شيء؟

لكن الأسئلة تظل بلا إجابة، والصواريخ تظل تسقط، والقرارات تظل تصدر، واليمنيون يظلون عالقين في هذا الجحيم، بين السماء التي تمطرهم بالقذائف، والأرض التي تضيق عليهم يومًا بعد يوم.

ربما لا يهتم العالم، وربما لن يتغير شيء قريبًا، لكن الحقيقة البسيطة التي لا يمكن إنكارها هي أن اليمني يستحق الحياة، كما يستحقها أي إنسان آخر. يستحق أن يعيش، أن يحلم، أن يسافر، أن يكون أكثر من مجرد "هدف" في سياسة عمياء لا ترى إلا الخراب.




Post a Comment

أحدث أقدم