صدى الواقع اليمني: خاص
تقف محافظة تعز ك قلعة منيعة تشهد منذ ما يقارب العقد من الزمن معارك ضارية بين قوات الجيش الوطني المدعومة من التحالف العربي، ومليشيا الحوثي المدعومة إيرانيًّا.
هذه المدينة، التي تُلقب بـ"عاصمة الثقافة اليمنية"، تحولت إلى رمز للمقاومة، لكنها أيضًا باتت مثالًا لواحدة من أكثر الأزمات الإنسانية تعقيدًا في العالم.
هذا التقرير يرصد التطورات العسكرية الأخيرة على جبهات المحافظة، ويحلل أبعادها السياسية والإقليمية، مع تسليط الضوء على تداعياتها الإنسانية المتفاقمة.
المشهد العسكري.. معارك الضوء والظل
في خطوةٍ اعتبرها مراقبون محاولةً لرفع معنويات القوات، قام رئيس هيئة العمليات في وزارة الدفاع، اللواء الركن خالد يحيى الأشول، بجولة تفقدية ميدانية يوم السبت الماضي شملت جبهتي القصر شرقًا والدفاع الجوي غرب تعز، رفقة مدير عمليات محور تعز، العميد يحيى العيزري.
وشملت الزيارة تفقد المستشفى العسكري والمنفذ الشرقي للمدينة، حيث أشاد الأشول بـ"الصمود الأسطوري للجيش في مواجهة المليشيات"، وفق تصريحات نقلتها وسائل الإعلام الرسمية.
لكن خلف الخطاب الرسمي، تكشف مصادر ميدانية لـ"صدى الواقع اليمني" أن الزيارة تأتي في إطار تقييم الخطط العسكرية لمواجهة التحركات الحوثية الأخيرة، خاصة بعد تصاعد عمليات الاستنزاف التي تنفذها المليشيا عبر قناصة وكمائن متفرقة، ما أدى إلى استشهاد عشرات الجنود خلال الأسابيع الماضية.
جبهة الدفاع الجوي: معركة التلال الاستراتيجية
تشهد جبهة الدفاع الجوي، شمال غرب تعز، واحدة من أشرس المعارك منذ أواخر ديسمبر 2024، حيث نجحت قوات الجيش في إحباط هجوم حوثي واسع استهدف السيطرة على التلال المطلة على مدخل المدينة الغربي، وفقًا لمصادر عسكرية، استخدم الحوثيون أسلحة متوسطة وثقيلة في الهجوم، بما في ذلك صواريخ "كورنيت" المضادة للدروع، بينما اعتمد الجيش على غارات جوية سريعة من التحالف لدعم القوات الأرضية.
المصادر تضيف أن الهجوم الحوثي يأتي في إطار خطة لقطع طريق الإمدادات الوحيد المتبقي للمدينة، والذي يمر عبر جبهة التحيتا، ما قد يؤدي إلى حصار كامل لتعز، التي يعتمد 80% من سكانها على المساعدات الإنسانية وفق إحصائيات الأمم المتحدة.
جبهة القصر: حرب الأنفاق والاستخبارات العسكرية
في الجبهة الشرقية (جبهة القصر)، تكشف وثائق عسكرية حصلت عليها "صدى الواقع اليمني" عن تدمير الجيش الوطني لـ نفقين حوثيين كانا يُستخدمان لتهريب الأسلحة وتنفيذ عمليات تسلل خلف الخطوط الأمامية.
العملية، التي نُفذت في 15 ديسمبر 2024، اعتمدت على معلومات استخباراتية دقيقة، وفقًا للعقيد محسن النقيب، المتحدث العسكري في المحور الشرقي، الذي أكد في حديثه لـ"صدى الواقع اليمني" أن "الحرب في تعز لم تعد معركة مدفعية فحسب، بل تحولت إلى مواجهة استخباراتية معقدة".
جبهة الأحطوب: اختراقات محدودة ومخاوف من التصعيد
في الريف الغربي لتعز، تشهد جبهة الأحطوب في مديرية جبل حبشي اشتباكات متقطعة منذ أكتوبر 2024، حيث حاولت المليشيا التسلل إلى مواقع عسكرية محصنة، لكن القوات الحكومية تمكنت من صد الهجمات بدعم من المدفعية الثقيلة، ومع ذلك، حذر الخبير العسكري عبدالله السقاف من أن "الحوثيين يخوضون حرب استنزاف لتحويل انتباه الجيش عن الجبهات الرئيسية، في الأثناء يستعدون لشن هجوماً كبيراً مع حلول الربيع".
التكتيكات الحوثية.. بين حرب الخنادق والدعاية
أشارت صور الأقمار الصناعية التي رصدتها منظمات مراقبة دولية إلى أن الحوثيين قاموا بتحشيد مكثف للتعزيزات العسكرية حول تعز خلال الأشهر الثلاثة الماضية، مع حفر شبكة معقدة من الخنادق والأنفاق، خاصة في مناطق التحيتا والمخاء.
هذا التكتيك، الذي استخدمته المليشيا بنجاح في معارك مارب والحديدة، يهدف إلى تقليل الخسائر البشرية في حال تعرض المواقع للقصف الجوي.
الحرب الإعلامية: بين تضخيم الانتصارات وتزييف الوقائع
على الجانب الإعلامي، تواصل المليشيا نشر مقاطع فيديو تزعم فيها السيطرة على مواقع استراتيجية في تعز، مثل مقطع تم تداوله مؤخرًا حول "تحرير تلة المنصورة"، وهو ما نفته مصادر عسكرية حكومية، مؤكدة أن الاشتباكات لا تزال تدور حول السيطرة على التلة.
من جهتها، تتهم منظمات حقوقية الحوثيين باستخدام السكان المدنيين دروعًا بشرية، بينما تنفي المليشيا هذه الاتهامات وتتهم الجيش بقصف مناطق سكنية.
الأبعاد السياسية.. صراع الإرادات الإقليمية
شككت مصادر دبلوماسية في التزام الرياض وأبوظبي بتحرير تعز بالكامل، إذ يُعتقد أن الإبقاء على الوضع العسكري متوترًا يُخدم استراتيجية الضغط على الحوثيين خلال المفاوضات.
هذا التكتيك يتعارض مع تصريحات الرئيس اليمني رشاد العليمي، الذي وصف تعز خلال زيارته الأخيرة للرياض بأنها "خط أحمر لا يمكن التنازل عنه".
الحوثيون وإيران: شراكة تكتيكية أم تحالف استراتيجي؟
في سياق متصل، كشفت وثائق مسربة من البنتاغون عن تورط إيراني مباشر في تدريب الحوثيين على استخدام الطائرات المسيرة في معارك تعز، حيث تم رصد مستشارين إيرانيين في قاعدة الصالح الحوثية شمال صنعاء.
هذه المعلومات، وإن نفتها طهران، تعزز التحذيرات الأمريكية من تحول اليمن إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية.
الأمم المتحدة ومأزق الوساطة: جهود متعثرة واتهامات بالتحيز
من جانبها، تبدو الجهود الدولية لوقف إطلاق النار في تعز عاجزة، حيث فشل المبعوث الأممي الجديد هانز غروندبرغ في إقناع الحوثيين بالمشاركة في جولة مفاوضات جديدة، فيما تتهم المليشيا المنظمة الدولية بـ"الانحياز للتحالف". الخبير السياسي فؤاد الصلاحي يعلق لـ"صدى الواقع اليمني" بالقول: "تعز هي مرآة لفشل المجتمع الدولي في فهم تعقيدات الصراع اليمني".
الكارثة الإنسانية.. حصار خفي ومعاناة مرئية
وفقًا لتقرير حديث لبرنامج الأغذية العالمي، فإن 85% من سكان تعز يعتمدون على المساعدات الغذائية للبقاء على قيد الحياة، بينما تعاني 30% من الأطفال دون الخامسة من سوء التغذية الحاد.
هذه الأزمة تفاقمت بسبب إغلاق الحوثيين المتكرر لطرق الإمداد، ما أدى إلى ارتفاع أسعار المواد الأساسية بنسبة 500% منذ 2022.
المستشفيات تحت القصف: طبابة الحرب أم حرب الطبابة؟
خلال جولة "صدى الواقع اليمني" في مستشفى الثورة المركزي، التقطت الكاميرات مشاهد مروعة لجرحى ينتظرون العلاج على الأرض بسبب نقص الأسرة، بينما يقول مدير المستشفى د. أحمد قاسم: "نعاني من شحّ الأدوية منذ أشهر، وآخر شحنة تبرعات وصلت كانت من منظمة أطباء بلا حدود قبل 6 أسابيع".
الجانب الأكثر إثارة للجدل هو اتهامات لمنظمات حقوقية بتحويل الحوثيين بعض المستشفيات إلى ثكنات عسكرية، وهو ما تؤكده صور التقطها سكان محليون لجنود حوثيين داخل مبنى مستشفى المظفر المهجور.
مستقبل تعز.. سيناريوهات مرعبة وأمل ضئيل
السيناريو العسكري: هل تشهد 2025 معركة مصيرية؟
يطرح الخبراء ثلاثة سيناريوهات محتملة:
الأول تصعيد عسكري حوثي كبير مع حلول الربيع، مدعوم بصواريخ باليستية.
أما الثاني استمرار حرب الاستنزاف إلى ما لا نهاية.
السيناريو الثالث تدخل دولي مباشر لفك الحصار عن المدينة، وهو ما تبدو احتمالاته ضعيفة في ظل الانشغال العالمي بأزمات أوكرانيا وتايوان.
تعز ما بعد الحرب: هل يمكن إعادة البناء؟
حتى في حال توقف القتال اليوم، فإن إعادة إعمار تعز ستتطلب 20 مليار دولار وفق تقديرات البنك الدولي، مع استحالة إصلاح البنية التحتية المدمرة دون تسوية سياسية شاملة.
لكن السؤال الأكبر: من سيمول إعادة الإعمار في ظل انهيار الاقتصاد اليمني وتراجع الاهتمام الدولي؟
تعز.. عندما تتحول المدينة إلى مجرد رقم في تقارير النزاعات
بينما تستمر عجلة الحرب في الدوران، تتحول تعز من مدينةٍ تنبض بالحياة إلى مجرد نقطة على خريطة الصراعات الدولية، حيث تُختزل معاناة سكانها في أرقام جافة ضمن تقارير الأمم المتحدة.
ومع كل طلقة تُطلق، يبدو أن الأمل في حل سياسي يتراجع، لتبقى تعز شاهدة على فشل العالم في إنقاذ الإنسانية.
إرسال تعليق