جارٍ تحميل الأخبار العاجلة...
Responsive Advertisement

الصحة النفسية في تعز.. حرب غيبت الأمل وخدمات فاقمت الألم

صدى الواقع اليمني - تقرير: حسين الشدادي

الصحة النفسية في تعز.. حرب غيبت الأمل وخدمات فاقمت الألم
مركز الدكتور سعيد القدسي تعز


في زاوية من زوايا مدينة تعز، المدينة اليمنية التي أنهكها الحرب، يجلس "فخر العزب" زميلي الصحفي، يروي قصة شفائه من الاكتئاب بعد سنوات من المعاناة.

 كان فخر أحد الناجين الذين تلقوا العلاج في مركز الدكتور سعيد القدسي للطب النفسي، قبل أن تُغلَق أبوابه وتُطارَد شهادته بالشكوك. 

قصته ليست سوى حلقة في سلسلة معقدة من المعاناة النفسية التي يعيشها سكان تعز، حيث تتداخل آثار الحرب مع غياب الخدمات ووصمة المجتمع، لتصنع مأساة إنسانية تحتاج إلى كشفها.  

مراكز الصحة النفسية في تعز.. بين الإهمال والجهود الفردية 

 
يُعتبر مستشفى الأمراض النفسية والعصبية في مديرية المظفر رمزًا لتاريخ متقلب، تأسس ك أول مركز حكومي للصحة النفسية في اليمن، لكن الحرب حوّلته إلى مبنى شبه مدمر، في 2023، تدخلت مؤسسة توكل كرمان لإعادة تأهيله، حيث تم ترميم المرافق وتوفير أسرّة ومنظومة طاقة شمسية، لكن هذه الجهود تبقى "رقعة على ثوب ممزق"، فالمستشفى يعاني من نقص حاد في الكوادر الطبية والأدوية، بينما تكشف الإحصائيات عن تصاعد الأعداد: 6520 حالة في 2023، و 5404 حالات من يناير إلى أغسطس 2024.  

 أمل خلف القضبان


داخل أسوار الإصلاحية المركزية، أُطلِق مشروع مصحة نفسية بتمويل من مؤسسة "رسالتي لتنمية المرأة"، بهدف تقديم الدعم للسجناء، المشروع يُعد خطوة إنسانية في بيئة قاسية، لكنه يطرح تساؤلات عن مدى استدامته، خاصة مع تقارير تشير إلى تعرض بعض السجناء لانتهاكات تزيد من اضطراباتهم النفسية.  

 محاولة لاحتواء الأزمات

 
يقدم مركز خدمات الإرشاد النفسي للطلاب والمجتمع، عبر جلسات فردية وندوات حول الإدمان وغيره، لكن محدودية الموارد تجعله عاجزًا عن مواكبة الاحتياجات المتزايدة، وسط غياب دعم حكومي واضح.  

 العيادات الخاصة: بين النجاح والشكوك


مركز الدكتور سعيد القدسي، رغم شهادات المرضى مثل فخر العزب، الذي أكد شفاءه من الاكتئاب، خلال فترة من تلقي العلاج سواء بالجلسات العلاجية أو الأدوية من مركز الدكتور سعيد القدسي إلا أن المركز أُغلِق بعد اتهام الدكتور القدسي بمزاولة المهنة دون شهادة معتمدة. 

القضية تثير جدلًا حول آليات ترخيص المراكز النفسية في ظل الفوضى الإدارية.  


مركز الدكتور محمد المحمدي


 يُعد الأكثر ثقة بين السكان، مع فرعين في تعز والتربة، وخدمات عن بُعد عبر تطبيق "Meet". يشيد المرضى بفاعلية علاجه، لكن تكاليفه العالية تجعله بعيدًا عن متناول الفقراء.  


الحرب.. العدو الأول للعقل


وفقًا لخبراء نفسيين، فإن العوامل التالية تصنع "عاصفة كاملة" تهدد الصحة العقلية لسكان تعز:  

استمرار الحرب: نزوح الأسر وفقدان المنازل خلق جيلًا يعاني من اضطرابات ما بعد الصدمة. 
 
الانهيار الاقتصادي: بطالة تصل إلى 80% وفق بعض التقديرات، تجعل توفير لقمة العيش أولوية تُلغِي الاهتمام بالصحة النفسية.
  
الوصمة الاجتماعية: الاعتقاد بأن المرض النفسي "عار" أو "مس شيطاني" يدفع الكثيرين للاختباء أو اللجوء إلى المشعوذين. 
 
انتشار القات: يُستهلك بنسبة 90% بين الذكور، وفق دراسات محلية، مما يفاقم الاكتئاب والقلق.  

 الرقية الشرعية والمشعوذين..
 عندما يصبح الوهم ملاذًا

  
في أحياء مدينة تعز وقراها المترامية تنتشر "عيادات" الرقاة الذين يعدون بعلاج الأمراض النفسية بـ"آيات قرآنية" أو "تعاويذ". بعض المرضى يروون تجاربهم معها:  

أحمد ن. (32 عامًا): "دفعت كل مدخراتي لمشعوذ قال إنني مسحور، لكن حالتي ساءت".  

أم محمد: "ابنتي تعاني من انفصام، لكن المجتمع يلومني إن ذهبت بها لطبيب نفسي".  

هذه الظاهرة تعكس فجوة خطيرة: 70% من اليمنيين يعتقدون أن الأمراض النفسية سببها "السحر"، وفق استطلاع أجرته منظمة "يونيسف" عام 2022.  


 جهود تحتاج إلى دعم

 
رغم الصورة القاتمة، ثمة محاولات جديرة بالذكر:  
ورشة الدعم النفسي (أكتوبر 2024)**: دشنتها الدكتورة إيلان عبدالحق، وتضمنت تدريب كوادر على تقديم الإسعافات النفسية.  
مبادرات المجتمع المدني: مثل حملات التوعية التي تنظمها جامعة تعز، لكنها تظل محدودة التأثير بسبب ضعف التمويل.  



 الدولة بين العجز والمسؤولية


رغم أن الدولة أقرت بخطورة الأزمة، فإن تقريرًا صادرًا عن "مرصد الصحة النفسية في اليمن" يكشف عن 0.5% من موازنة الصحة تُخصَّص للصحة النفسية.  

مستشفى الأمراض النفسية في تعز يعتمد بالكامل على التبرعات الخارجية لتوفير الطعام والدواء.  


حينما يغيب الأمل.. وتنتصر الحرب

ك مريض اكتئاب تلقيتُ العلاج في مركز القدسي، أدرك أن معاناة الصحة النفسية في تعز ليست مجرد أرقام، بل قصص بشر تُسحق تحت وطأة الحرب والإهمال، ما حدث مع القدسي سواء كان ممارسًا غير مرخص أو ضحية لنظام بيروقراطي فاشل يلخص المأساة.

إن غياب الرقابة الحكومية يفتح الباب أمام الشكاوى، لكنه أيضًا يحرم آلاف المرضى من آخر أمل.  

النظام الصحي في تعز يحتاج إلى أكثر من ترميم مباني؛ يحتاج إلى خطة استراتيجية تشمل إدماج الصحة النفسية في الرعاية الصحية الأولية كذلك إلى حملات توعية بمشاركة رجال الدين لكسْر وصمة "العار".  

إلى ذلك فإن دعم المراكز الخاصة الموثوقة بدلًا من إغلاقها دون بديل، ومحاربة انتشار المشعوذين بقوانين صارمة أمراً ليس مستحيلًا.

 فكما استطاعت تعز الصمود أمام الحرب، يمكنها أن تنتصر في معركة إنقاذ العقول، لكن ذلك يتطلب أن تتحول الصحة النفسية من "رفاهية" إلى أولوية في أجندة كل مسؤول.  

في زحمة الرصاص والأزمات، تبقى الصحة النفسية الجرح الأعمق لسكان تعز، وإن كان العلاج قد يتأخر، فإن الكشف عن هذه المعاناة هو أول خطوة نحو العدالة.

Post a Comment

أحدث أقدم